الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.سورة النمل: مكية كلها في قول الجميع، وهي ثلاث وتسعون آية. وقيل: أربع وتسعون آية..تفسير الآيات (1- 6): {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)}قوله تعالى:: {طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ} مضي الكلام في الحروف المقطعة في البقرة وغيرها. و{تِلْكَ} بمعنى هذه، أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن المعرفة، وقال: {وَكِتابٍ مُبِينٍ} بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة، كما تقول: فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن، فجمع له بين الصفتين: بأنه قرآن وأنه كتاب، لأنه ما يظهر بالكتابة، ويظهر بالقراءة. وقد مضى اشتقاقهما في البقرة.وقال في سورة الحجر: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة، وذلك لان القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده، وقد تقدم. قوله تعالى: {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} {هُدىً} في موضع نصب على الحال من الكتاب، أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء، أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة، أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر {لِلْمُؤْمِنِينَ} ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقد مضى في أول البقرة بيان هذا. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ} قيل: أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة.وقيل: زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها.وقال الزجاج: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي يترددون في أعمالهم الخبيثة، وفي ضلالتهم. عن ابن عباس. أبو العالية: يتمادون. قتادة: يلعبون. الحسن: يتحيرون، قال الراجز:قوله تعالى: {أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ} وهو جهنم. {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} {فِي الْآخِرَةِ} تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} {لَدُنْ} بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة، لأنها لا تتمكن، وفيها لغات ذكرت في الكهف. وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه. .تفسير الآيات (7- 14): {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}قوله تعالى: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ} {إِذْ} منصوب بمضمر وهو أذكر، كأنه قال على أثر قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}: خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله. {إِنِّي آنَسْتُ ناراً} أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة:{سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي {بِشِهابٍ قَبَسٍ} بتنوين {شهاب}. والباقون بغير تنوين على الإضافة، أي بشعلة نار، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: ولدار الآخرة، ومسجد الجامع، وصلاة الأولى، يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين، لان معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شي فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و{شهاب قبس} إضافة النوع والجنس، كما تقول: هذا ثوب خز، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذى نور، نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه، فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا، والاسم قبس. كما تقول: قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ {بِشِهابٍ قَبَسٍ} جعله بدلا منه. المهدوي: أو صفة له، لان القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة، ويجوز أن يكون صفة، فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس، وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهى إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء، لان الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال: اصطلى يصطلى إذا استدفأ. قال الشاعر: الزجاج: كل أبيض ذى نور فهو شهاب. أبو عبيدة: الشهاب النار. قال أبو النجم: أحمد بن يحيى: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه، وقول النحاس فيه حسن: والشهاب الشعاع المضي ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء.وقال الشاعر: قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَها} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهى نور، قاله وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا، فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه، فخافها فتأخر عنها، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدرى من أمرها، إلى أن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها}. وقد مضى هذا المعنى في طه. {نُودِيَ} أي ناداه الله، كما قال: {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ}. {أَنْ بُورِكَ} قال الزجاج: {إِنَّ} في موضع نصب، أي بأنه. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله.وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبى وابن عباس ومجاهد {أن بوركت النار ومن حولها}. قال النحاس: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى.وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك. الثعلبي: العرب تقول باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، أربع لغات. قال الشاعر: الطبري: قال: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركة الله، وبارك له، وبارك عليه، وبارك فيه بمعنى، أي بورك على من في النار وهو موسى، أو على من في قرب النار، لا أنه كان في وسطها.وقال السدى: كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة، أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، قال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}. وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير: قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى، عني به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: النار نور الله عز وجل، نادى الله موسى وهو في النور، وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا، وهذا لان الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ}لا أنه يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا: أي بورك من في النار سلطانه وقدرته.وقيل: أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة. قلت: ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه، وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبى موسى قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لا حرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضا. ولفظ مسلم عن أبى موسى قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات، فقال: «إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور- وفي رواية أبى بكر النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» قال أبو عبيد: يقال السبحات إنها جلال وجهه، ومنها قيل: سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله: {لو كشفها} يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج: النار حجاب من الحجب وهى سبعة حجب، حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شي، فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار، لان موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر.وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روى أنه مكتوب في التوراة: جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير وأستعلى من جبال فاران. فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفاران مكة. وسيأتي في القصص بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى.قوله تعالى: {وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع، والمعنى: أي يقول حولها {وَسُبْحانَ اللَّهِ} فحذف.وقيل: إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء، استعانة بالله تعالى وتنزيها له، قاله السدى.وقيل: هو من قول الله تعالى. ومعناه: وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين، حكاه ابن شجرة. قوله تعالى: {يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الامر والشأن {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ} الغالب الذي ليس كمثله شي {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله.وقيل: قال موسى يا رب من الذي نادى؟ فقال له: {إنه} أي إنى أنا المنادى لك {أَنَا اللَّهُ}. قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصاكَ} قال وهب بن منبه: ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها.وقيل: إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله، وأن موسى رسوله، وكل نبى لأبد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته.وفي الآية حذف: أي والق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان، وهى الحية الخفيفة الصغيرة الجسم.وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة.وقيل: إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة.وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى وهى الأنثى، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات.وقيل: المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهى حية تسعى. وجمع الجان جنان، ومنه الحديث: «نهى عن قتل الجنان التي في البيوت». {وَلَّى مُدْبِراً} خائفا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع، قاله مجاهد.وقال قتادة: لم يلتفت. {يا مُوسى لا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. {إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ}.وقيل: إنه استثناء من محذوف، والمعنى: إنى لا يخاف لدى المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه لا يخاف، قاله الفراء.قال النحاس: استثناء من محذوف محال، لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إنى لا ضرب القوم إلا زيدا بمعنى إنى لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا، وهذا ضد البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا: أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم، قال: قال النحاس: وكون {إِلَّا} بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام، ومعنى {إِلَّا} خلاف الواو، لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الاخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب.وفي الآية قول آخر: وهو أن يكون الاستثناء متصلا، والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، سوى ما روى عن يحيى بن زكريا عليه السلام، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} ذكره المهدوي واختاره النحاس، وقال: علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك: يعني آدم وداود عليهما السلام. الزمخشري: كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزة القبطي. فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به.وقال الحسن وابن جريج: قال الله لموسى إنى أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم: فالاستثناء على هذا صحيح أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل: إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في البقرة.قلت: والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه، ثم غفر له، ثم قال بعد المغفرة: {رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلى من الغد لقوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره، لان الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده، فأفشى عليه فـ {قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الإسرائيلي على موسى، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدرى من قتله، فلما علم فرعون بذلك، وجه في طلب موسى ليقتله، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق، جاء رجل يسعى ف {قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث، فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب. قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تقدم في طه القول فيه. {فِي تِسْعِ آياتٍ} قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي: المعنى {أَلْقِ عَصاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فهما آيتان من تسع آيات.وقال القشيري معناه: كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. ف {فِي} بمعنى من لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها.وقال الأصمعي في قول امرئ القيس: في بمعنى من.وقيل: في بمعنى مع، فالآيات عشرة منها اليد، والتسع: الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس. وقد تقدم بيان جميعه. {إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء: في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله، وقد تقدم: قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة. قال الأخفش: ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال: الولد مجبنة. {قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و{ظُلْماً} و{عُلُوًّا} منصوبان على نعت مصدر محذوف، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها، قاله أبو عبيدة. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي آخر أمر الكافرين الطاغين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره.
|